يمن اتحادي هو منصة إخبارية رقمية رائدة تسعى لتقديم تغطية شاملة وعميقة للأحداث الجارية في اليمن، مع التركيز على تقديم صورة واضحة وموضوعية للأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية في البلاد

من عجائب هذا الزمان - أن الأنذال يتفاخرون بحقارتهم، والأنقياء يخجلون من طيبتهم

أشرف محمدين

الكاتب : أشرف محمدين 

في عالمٍ اختلطت فيه المعايير، وتبدّلت فيه القيم، صرنا نعيش مفارقة مؤلمة تكاد تكون من أعجب ما أنتجته الأيام:
أن ترى من لا يملك سوى القسوة يتباهى بها، ومن لا يحمل في قلبه إلا النقاء يستحي من طيبته.
أن يتحول السقوط إلى بطولة، ويُعامل الصعود الأخلاقي كأنه سذاجة لا تليق بعصرٍ “لا يرحم”.
لم يعُد الشر يخجل من نفسه، بل صار يرفع رأسه عاليًا.
ولم تعُد الطيبة تتقدم بخطوات واثقة، بل صارت تمشي على استحياء، تخشى أن تُتهم بالضعف، أو تُصنَّف ضمن الطيبين أكثر من اللازم
صار البعض يتفاخر كيف خدع، وكيف خان، وكيف دهس مشاعر غيره دون أن يرفّ له جفن، وكأن إيذاء الآخرين صار إنجازًا، وكأن القسوة شهادة تفوق اجتماعي.
بينما يجلس أصحاب القلوب النقية في الصفوف الخلفية، يتوارون خلف صمتهم، يخجلون من نقائهم، وكأن الطهارة تهمة، وكأن الرحمة ضعف، وكأن الأخلاق رفاهية لا تصلح لهذا الزمن الخشن
نعيش زمنًا يُكافأ فيه الجريء على الشر، ويُحاسَب فيه الطيب على حسن نيته.
زمنٌ تُصفَّق فيه الأيادي لمن يعلو على أكتاف غيره، ولو كسرهم،
ويُسأل فيه النقي: “لماذا أنت هكذا؟ لماذا لا تكون مثلهم؟”
وكأن السؤال الحقيقي لم يعد:
لماذا فسد بعض الناس؟
بل صار: لماذا لم يفسد الجميع؟
الأنذال اليوم لا يكتفون بأن يكونوا أنذالًا، بل يريدونك أن تصفق لهم، أن تعترف بدهائهم، أن تُبرر سقوطهم تحت مسمى “الشطارة”.
والأنقياء لا يكتفون بأن يكونوا أنقياء، بل يُجبرون على الدفاع عن أنفسهم، عن نواياهم، عن طهارتهم، وكأنهم في موضع اتهام دائم.
الحقارة لم تعد تُرتكب في الخفاء، بل صارت تُعرض في وضح النهار، بصوتٍ عالٍ، وضحكاتٍ واسعة، ووقاحة لا تخشى حسابًا.
أما الطيبة، فصارت تُخفى، تُوارى، تُغلف بالحذر، كأن صاحبها يخشى أن تُسرق منه، أو يُستغل بسببها.

ومن أعجب ما في هذا الزمان أن الإنسان الطيب صار يعتذر عن طيبته،
صار يقول: “أنا آسف لو كنت زيادة عن اللزوم”،
بينما لا يقول القاسي يومًا: “أنا آسف لأنني آذيتك”.
الطيب يلوم نفسه لأنه سامح،
والنذل يبرر لنفسه لأنه خان.
الطيب يتألم بصمت،
والنذل يتباهى بصخبه.
كبرت مفاهيم القوة عند الناس حتى صارت تعني القدرة على الإيذاء،
وصغرت مفاهيم الرحمة حتى صارت تعني الضعف.
وما علموا أن أعظم قوة هي أن تملك القدرة على القسوة وتختار الرحمة،
وأن أصدق شجاعة هي أن تعيش نقيًا في عالم ملوّث
ليس غريبًا إذن أن تُكسر القلوب النظيفة كثيرًا،
فهي لا تُشبه هذا الزمان،
ولا تُجيد الأقنعة،
ولا تحسن اللعب على الحبال،
ولا تعرف كيف تبرر السقوط.
القلوب النقية تدخل الحياة كما هي: بوجهها الحقيقي.
أما القلوب الملوّثة، فتدخلها بألف قناع، وتخرج منها بلا ضمير
لكن ورغم كل هذا… يظل في الطيبة سرّ لا يفهمه أهل القسوة.
سرّ يجعل صاحبها ينام وقلبه مطمئن،
ويمشي ورأسه مرفوعة،
ويخسر أحيانًا أشخاصًا… لكنه لا يخسر نفسه.
قد ينتصر النذل جولة،
وقد يظن أنه سبق الجميع بخطوة،
لكن النقي وحده هو من يصل طويل النفس،
لأن الطريق الذي يمشيه لا يحتاج إلى التفاف،
ولا يحتاج إلى طعن من الخلف،
ولا يحتاج إلى جثث تحت الأقدام.
ومن عجائب هذا الزمان فعلًا…
أن النذل يتفاخر بحقارته، لأنه لم يعرف يومًا قيمة الشرف،
وأن النقي يخجل من طيبته، لأنه يعيش في زمنٍ لا يُشبه قلبه.
لكن سيظل في هذا العالم — مهما اشتد ظلامه —
بقعة ضوء اسمها الطيبة،
وصوت خافت لكنه صادق اسمه الضمير،
وناسٌ لا يعرفهم الجميع،
لكن تعرفهم السماء جيّدًا.
لأن الله لا يُكرم الوقاحة،
ولا يبارك في الخداع،
ولا يرفع من بُني على أذى غيره… وإن بدا عاليًا أمام الناس
يرفع الله النقي بصبره،
ويُسقِط النذل بوقاحته،
ولو بعد حين
وفي آخر المشهد، يقف النقيّ وحيدًا في منتصف الطريق، يلتفت خلفه فلا يجد سوى بصمات قلبه التي تركها على الجدران، وعلى الوجوه، وعلى الأيام. منح دون حساب، وغفر دون شروط، وصبر حتى تآكل الصبر في داخله. لم يكن ضعيفًا، بل كان طيبًا أكثر مما ينبغي في زمنٍ لا يعرف كيف يتعامل مع الطيبين إلا بوصفهم فريسة سهلة
النقيّ لا يتألم لأنه أُسيء إليه، بل لأنه يرى العالم يتحول عكس فطرته، يرى القبح يُكافأ، والخداع يُصفَّق له، والأنذال يتباهون بوجوههم العارية من أي خجل، بينما يقف هو متراجعًا خطوة للخلف، خجِلًا من قلبه، مرتبكًا من صدقه، متسائلًا في صمت:
هل أخطأت حين كنت كما أنا؟

أقسى أنواع الألم أن تُعاقَب لأنك لم تُشبههم، أن تُكسَر لأنك لم تتقن الأقنعة، أن تُستنزَف لأنك لم تعرف إلا وجهًا واحدًا للحياة: وجه النقاء. أن تكتشف أن طيبتك التي كنت تظنها تاجًا على رأسك، صارت سكينًا في ظهرك.

وهنا، تحديدًا هنا… يبدأ التحول المؤلم. لا يتحول النقيّ إلى شرير، لكنه يتحول إلى أكثر حذرًا، أقل اندفاعًا، أكثر صمتًا، أقل ثقة. يتعلم متأخرًا أن ليس كل من ابتسم 
الوجع الأكبر أنه لا يندم على طيبته، لكنه يندم على من منحهم إياها. لا يلعن قلبه، بل يلعن لحظة ضعفه التي ظن فيها أن الجميع يُشبهه. ويتألم لأنه حين أراد أن يكون جميلًا… كان العالم قاسيًا أكثر مما يحتمل.

وفي النهاية، ينسحب النقيّ بكرامة صامتة، لا يشهر سكينًا، ولا يفضح أحدًا، ولا يصرخ في وجه الظلم، بل ينسحب فقط… وهو يحمل داخله مقبرة صغيرة لكل الذين خانوا طيبته. ينسحب وهو أكثر وحدة، لكنه أكثر وعيًا. أكثر وجعًا، لكنه أكثر نجاة.

ويبقى السؤال الذي يوجِع أكثر من كل الأجوبة:
هل الطيبة في هذا الزمان فضيلة…
أم عبء لا يحتمله إلا من كُتب عليه أن يتألم بشرف

اضف تعليقك على المقال