الكاتب : أشرف محمدين
في رحلة الحب، تُعد الثقة حجر الأساس الذي تُبنى عليه المشاعر، وتُشيّد عليه الأحلام، وتزدهر به العلاقات. فبدون الثقة، يتحول الحب من نعمة تُحيي الأرواح إلى عبءٍ يثقل القلوب ويخنق الأحلام. إنها ليست مجرد كلمةٍ تُقال في لحظة صفاء، بل فعلٌ يومي، وبناءٌ متدرج، تتراكم لبناته من المواقف الصغيرة والكلمات الصادقة والنوايا الواضحة.
حين نثق، فإننا نمنح الآخر مفاتيح قلوبنا طوعًا، نضع بين يديه ضعفنا وأسرارنا وطمأنينتنا، وكأننا نقول له دون كلام: “أنت وطني، ولن أخاف ما دمت هنا.” ولكن حين تتصدع هذه الثقة، ينهار الكيان كله، حتى لو بقي الحب قائمًا في الظاهر، إذ لا حب يعيش في ظل الخوف، ولا قلب يزهر تحت ظلال الشك.
الثقة هي الروح الخفية التي تُنعش الحب، وهي الحبل الذي يشدّ العلاقة إلى بر الأمان. فهي التي تجعلنا نغفر الزلات، ونحتمل الغياب، ونطمئن أن وراء الصمت حنانًا، لا خيانة، وأن وراء المسافة شوقًا، لا هروبًا. من يفقد ثقته في من يحب، يفقد القدرة على الراحة في حضوره، ويخسر الأمان في صوته، ويتحوّل الحب إلى معركةٍ بين الخوف والحنين، لا يربح فيها أحد.
أزمة الثقة لا تبدأ بخيانةٍ كبرى كما يتصور البعض، بل تولد من التفاصيل الصغيرة التي نتجاهلها. من كلمةٍ لم تُفسَّر، أو نظرةٍ غامضة، أو وعدٍ تأخر الوفاء به. تتسلل مثل غبارٍ خفيفٍ إلى داخل القلب، حتى تتراكم وتغطي بريق الحب. ومع الوقت، يتحوّل الدفء إلى برود، والاطمئنان إلى حذرٍ دائم، والعلاقة إلى ساحة دفاعٍ وتبريرٍ لا تنتهي.
كم من حبٍ جميلٍ تآكل بصمت لأن أحدهما لم يعد يصدق الآخر؟
وكم من قلوبٍ نبيلة تحوّلت إلى قلوبٍ حذرة لا تعرف كيف تُحب من جديد؟
إن الشك لا يقتل الحب فجأة، بل يقتله ببطء، مثل تسربٍ خفي في سفينةٍ كانت تبدو قوية من الخارج. يبدأ بتساؤلات صغيرة، ثم يُصبح خوفًا، ثم يتحول إلى يقينٍ كاذبٍ بأن الآخر لم يعد كما كان. وهنا يموت الحب مختنقًا بما لم يُقال.
الثقة لا تُشترى ولا تُمنح بقرار، بل تُكتسب بالمواقف، وتُحفظ بالصدق، وتُروى بالاهتمام. فالصدق لا يعني قول الحقيقة فقط، بل العيش بها، وإثباتها بالفعل قبل الكلام. والاهتمام لا يعني الغرق في التفاصيل، بل الشعور بأنك في قلب الآخر، حاضرٌ حتى في غيابه. أما الوضوح، فهو دواء الشكوك ومهدئ القلوب، لأنه يُضيء المساحات التي قد تتسلل منها الظنون.
وما أجمل أن تكون العلاقة واحة أمانٍ لا يحتاج فيها أحدٌ إلى مراقبة هاتفٍ أو تفسير نظرة، بل يكفيه أن يثق. فالثقة تُعفيك من ألف سؤال، وتجعلك تحب بحريةٍ وكرامة. إنها تمنح العلاقة بريقها الهادئ، وتجعل الحنين طاهرًا لا ملوثًا بالشك، وتجعل الغياب مؤقتًا لا مهددًا.
قد يخطئ الإنسان، وقد يتعثّر الحب، لكن طالما بقيت الثقة، يمكن لكل شيء أن يُصلح. أما إذا رحلت، فكل محاولات الترميم لا تُجدي، لأن الجدار الذي تهدّم مرة، سيظل يحمل في داخله شقوق الخوف.
من يفقد الثقة في من يحب، يفقد القدرة على الحب ذاته. فالثقة ليست عنصرًا من عناصر العلاقة، بل هي الروح التي تمنحها معناها وجمالها ودوامها. احفظوا قلوب من وثقوا بكم، فكل قلبٍ يُمنح بثقة هو أمانة بين أيديكم، إن صنتوه أزهرت العلاقة، وإن خذلتموه ذبل كل شيء.
وسلامٌ على القلوب التي أحبّت بصدقٍ وأخلصت بثقة، فظلت نقيّة رغم الخيبات، لأنها أدركت أن الثقة لا تُبنى بالكلام، بل بالفعل، ولا تُقاس بالمدة، بل بالطمأنينة التي تزرعها في القلب. فالثقة ليست رفاهية في الحب، بل هي معناه الحقيقي، وهي النور الذي يُبقي الطريق واضحا مهما طال الليل
في نهاية الأمر، ليست الثقة مجرد ركنٍ في معمار الحب، بل هي روحه الخفية التي لا تُرى بالعين، ولكن يُحس بها القلب في كل نظرة وابتسامة وصمت. هي الإحساس الذي يجعلنا ننام مطمئنين، ونصحو بسلام، ونمضي في الحياة ونحن نعلم أن هناك قلبًا لا يطعن من الخلف، ولا يرحل في أول اختبار.
فمن يفقد الثقة في من يحب، لا يخسر شخصًا فقط، بل يفقد المرفأ، والسكينة، والأمان الذي يجعل الحب يستحق البقاء. الحب بلا ثقة يشبه وردة جميلة ذبلت رغم جمالها، لأن جذورها لم تجد ماء الصدق والرعاية.
إن الثقة حين تُكسر، لا تُرممها الاعتذارات، ولا تُعيدها الكلمات المنمقة، لأن ما يُكسر في الداخل لا يُرى، لكنه يترك شرخًا لا يلتئم. وحده من يقدّر الثقة حق قدرها، يعرف أنها أغلى من الحب نفسه، لأنها الضمانة الوحيدة لاستمراره، والدرع الذي يحميه من تقلبات النفس وغدر الأيام.
فاحرصوا على أن تكونوا موضع ثقة من تحبون، لا لأنكم تُريدون الحفاظ على العلاقة، بل لأن من يحبكم يستحق الأمان. فالثقة ليست وعدًا يُقال، بل عهدٌ يُصان… ومن يملك قلبًا صادقًا، لا يُخون، ولا يُخلف، ولا يُطفئ النور الذي أضاءه الحب في بدايته
سلام على القلوب التي ما زالت تُحب بثقة، رغم كل ما رأت من خيبات - وسلامٌ على النفوس التي ما زالت تؤمن أن الحب الحقيقي لا يموت، لكنه فقط ينتظر من يمنحه الأمان. من جديد







اضف تعليقك على المقال