الكاتب : أشرف محمدين
في لحظة صمتٍ صادقة، بعيدًا عن الضوضاء والوجوه المتعبة، يمرّ فينا سؤال موجع: أين ذهبت نسختنا القديمة؟ تلك النسخة النقية، البسيطة، التي كانت ترى الجمال في التفاصيل الصغيرة، وتثق بالبشر بلا خوف، وتحب من القلب بلا حساب. كم نشتاق لتلك الأرواح التي كانت تضحك بصدق، وتغضب ببراءة، وتسامح بسرعة لأن قلبها لم يعرف بعد قسوة التجارب.
لكن مع مرور الوقت، ومع كل خيبة، ومع كل طعنة لم نكن نستحقها، بدأ ذلك النقاء يتآكل شيئًا فشيئًا. لا لأننا أردنا أن نتغير، بل لأن الحياة أرهقتنا. علّمتنا أن الطيبة الزائدة تُؤلم، وأن الثقة العمياء تُكسر، وأن الصدق لا يُقدَّر كما كنا نظن. فصرنا نحمي أنفسنا بالتجاهل، ونتحصن بالصمت، ونتظاهر بالقوة، حتى لا يرانا أحد في لحظات انكسارنا.
كنا نضحك من القلب، واليوم نبتسم فقط كي لا نسأل كثيرًا. كنا نتحدث بشفافية، والآن نختار كلماتنا بحذر لأن الحقيقة صارت سلاحًا ضد أصحابها. كنا نُحب لأن الحب كان فطرة، واليوم نفكر ألف مرة قبل أن نفتح قلوبنا من جديد.
هكذا تُهلكنا التجارب، وتُشكّلنا الحياة كما تريد، لا كما كنّا.
كم نشتاق لأنفسنا النقية التي لم تعرف معنى الحذر من البشر، ولم تُضطر لارتداء الأقنعة لتنجو. كم نشتاق لتلك الروح التي كانت تبكي دون خجل، وتفرح لأجل الآخرين دون خوف من الغدر، وتُسامح لأنها كانت تؤمن أن الخير يعود دائمًا.
لكننا كبرنا… وتعلمنا أن النقاء وحده لا يكفي للبقاء، وأن الطيبة تحتاج إلى وعي، وأن البراءة في هذا العالم تُكلف صاحبها وجعًا مضاعفًا.
ومع ذلك، وسط كل هذا التلوث المعنوي، لا يزال فينا جزء صغير يقاوم. جزء نقي يرفض أن يموت، يختبئ في أعماقنا، ويذكرنا من حين لآخر أننا كنا أنقياء، وأننا مهما تلوثنا سنظل نحمل في دواخلنا بقايا ضوء لا يمكن أن تنطفئ تمامًا.
ربما نبدو قساة من الخارج، لكننا في الحقيقة نحمل في قلوبنا حنينًا عظيمًا إلى نقاء فقدناه قهرًا لا اختيارًا.
لقد شوهتنا الحياة بأحداثها، وجعلتنا نرتدي دروعًا كي نحمي ما تبقّى منا، لكننا في أعماقنا نعلم أن كل هذه الدروع مؤقتة، وأننا حين نعود إلى الله، سنستعيد صفاءنا الأول. لأن النقاء لا يموت، بل يختبئ انتظارًا للحظة التي نغفر فيها لأنفسنا، ولمن كسرونا.
ربما لا نستطيع أن نعود كما كنا، لكننا نستطيع أن نكون أفضل مما صِرنا.
فالنقاء لا يعني أن نظل كما كنا قبل الوجع، بل أن نخرج من الوجع دون أن نفقد إنسانيتنا. أن نعيش بوعيٍ أكبر، ورحمةٍ أعمق، وهدوءٍ يُشبه الحكمة لا الاستسلام.
نقاء القلب الحقيقي ليس أن نغفل عن قسوة العالم، بل أن نختار أن نظل طيبين رغم إدراكنا لها.
نحن لا نشتاق لأنفسنا القديمة بقدر ما نشتاق لسلامها الداخلي…
سلامٌ سنجده يوم نُسامح، ونرضى، ونُدرك أن نقاء الروح لا يُمحى، بل يظل يضيء فينا — ولو من تحت غبار الأيام
في رحلة العمر، نكتشف أن النقاء لا يُقاس بكمّ الطيبة التي نحملها، بل بقدرتنا على ألا نفقد أنفسنا رغم ما نفقده من الآخرين. فليس النقاء أن نبقى كما كنا قبل أن تُصيبنا الحياة بجراحها، بل أن نحمل هذه الجراح برضا، دون أن نسمح لها أن تُشوه جوهرنا.
لقد علمتنا الأيام أن العالم لا يُكافئ الصادقين دائمًا، وأن الطيبين يُداس عليهم أحيانًا في الزحام، لكنهم — رغم ذلك — يملكون ما لا يُشترى: ضميرًا حيًا، ووجدانًا لا ينام، وسلامًا داخليًا يأتي من معرفةٍ عميقة بأن الله يرى كل ما لم يُرَ، ويعوض كل ما ضاع في صمت.
كم هو جميل أن نصل إلى مرحلة من النضج تجعلنا لا نندم على نقائنا القديم، ولا نلعنه، بل نحترمه لأنه كان دليلًا على صدقنا في زمنٍ تعفّن فيه كثيرون. أن ندرك أن فقدان بعض البراءة لا يعني الفساد، بل يعني أننا تعلمنا أن نحمي قلوبنا من النزيف المتكرر، دون أن نغلقها تمامًا.
النقاء ليس غباءً، ولا ضعفًا كما يظنه البعض، بل هو نوع من الشجاعة النادرة — أن تظل قادرًا على الحب في عالمٍ يستهلك المشاعر بلا رحمة. أن تظل قادرًا على الإحسان رغم أن كثيرين لم يُحسنوا إليك، وأن تظل ترى النور في الناس رغم الظلال التي تركوها فيك.
وحين نشتاق لأنفسنا القديمة، نحن في الحقيقة نشتاق إلى ما كنا عليه قبل أن نُرهق من كثرة الوعي. كنا نظن أن الفهم سيمنحنا راحة، فاكتشفنا أنه منحنا ألمًا أعمق، لكنه في الوقت نفسه حررنا من أوهام كثيرة. لقد صار نقاؤنا مختلفًا؛ لم يعد طفوليًا ساذجًا، بل صار نُضجًا متسامحًا، يعرف متى يقترب، ومتى يبتعد، ومتى يصمت كي يحافظ على سلامه.
وفي نهاية الرحلة، حين نجلس وحدنا بعد أن تهدأ الضوضاء كلها، ندرك أن أنفسنا النقية لم تَتِه فعلًا… بل اختبأت داخلنا لتنجو. وأن كل ما مررنا به من خذلان وفقد لم يكن إلا غربلة إلهية، نزعت عنّا الزوائد لتُبقي فينا الجوهر الصافي الذي يستحق أن يعيش.
النقاء لا يموت… لكنه يتخفى، ينتظر لحظة الصفاء التي نعود فيها إلى الله، فنكتشف أننا كنا نبحث عنه في الخارج بينما هو يسكن فينا منذ البداية.
وحين نصل إلى تلك اللحظة، لا نشتاق لأنفسنا القديمة بعد الآن، بل نبتسم لأننا أخيرًا وجدناها من جديد… أنضج، أعمق، وأقرب إلى السماء







اضف تعليقك على المقال