الكاتب : أشرف محمدين
في حياة مزدحمة بالاصطدامات اليومية، اعتدنا أن نخاف من ظلم الآخرين لنا، نخشى خيانتهم، غدرهم، ألسنتهم، نواياهم، لكن قلّما وقف أحدنا لحظة واحدة ليسأل نفسه: وماذا عن ظلمي أنا؟ عن جهلي أنا؟ عن الكِبر الذي أراه في غيري وأنكره في نفسي؟
نحن نرتعب من شرور الناس، لكننا لا نرتعب من الشر الذي قد يخرج من أيدينا أو ألسنتنا أو قراراتنا في لحظة غضب أو عمى بصيرة.
وهنا يبدأ الخلل الأخلاقي الكبير: أن ترى نفسك دائمًا الضحية، ولا تتصور – ولو مرة – أنك قد تكون الجلّاد في قصة شخص آخر
النبي صلى الله عليه وسلم علّمنا دعاءً واحدًا يهدم هذا الغرور من جذوره.
عندما نخرج إلى الناس، لا ندعو فقط أن يكف الله أذاهم عنا، بل ندعو أن يكف أذانا عنهم
اللهم إني أعوذ بك أن أزل أو أُزل، أو أضل أو أضل، أو أَظلِم أو أُظلَم، أو أجهل أو يُجهل عليّ
لاحظ الترتيب
كما نخاف أن يُظلَمنا الناس، نخاف أن نظلمهم نحن.
كما نخشى أن يُجهلَ علينا، نخشى أن نَجهل نحن عليهم.
هذه المرايا الأربعة تُسقط أوهام البراءة المطلقة، وتعيد الإنسان إلى حجمِه الطبيعي: بشر يخطئ كما يُخطأ عليه
الإنسان بطبيعته لا يرى نفسه مشكلة حتى يُواجه بتلك الحقيقة
كم مرة أخذنا قرارًا متسرعًا فمزق روح شخص ما؟
كم مرة استخدمنا كلمة قاسية ثم اعتبرنا أن “هو اللي حسّاس زيادة”؟
كم مرة بررنا أخطاءنا بالحجّة وفسرنا أخطاء غيرنا بالخبث؟
هذا ليس ظلم الآخرين… هذا ظلم أنفسنا أولًا، لأن من تعود ألا يرى شرّه، لا يتوب عنه.
القيمة الأخلاقية في هذا الدعاء ليست في ألفاظه، بل في اعترافه الضمني بأنك لست ملاكًا يتلقى الأذى فقط، بل احتمال أن تكون مصدرًا له قائم كل يوم.
هذا الاعتراف وحده يخلق تواضعًا جديدًا في طريقة التعامل:
تصبح أكثر رفقًا، أبطأ في الحكم، أهدأ في الخصومة، وأعدل في الميزان.
فنحن عندما نخاف من الناس فقط؛ نصبح قساة دفاعًا عن أنفسنا.
وعندما نخاف على الناس منا؛ نصبح ألين، لأن الرحمة تتقدم الدفاع.
والأعمق من ذلك أن الإنسان الذي يخشى شرّه على غيره، لا يكتفي بتهذيب سلوكه، بل يراقب نيّته أيضًا.
يخشى أن ينتصر لنفسه باسم الحق، وهو في الحقيقة يدافع عن كبريائه.
يخشى أن يرد الإساءة بعشر أضعاف ثم يقول: “هو اللي بدأ”.
الخوف من شرّك يحولك من كائن منفعل إلى كائن واعٍ.
لا تعيش برد الفعل، بل بحساب الأثر
في زمن أصبح فيه الجميع يتحدث عن “حقوقه” ولا أحد يتحدث عن “واجباته”، هذا الدعاء يعيد التوازن:
قبل أن أطلب أن يكون الناس رحمة لي… عليّ أن أكون أنا رحمة له و لعلّ أجمل ما في هذا المعنى أنه يذكّرنا أن العدالة الحقيقية تبدأ من الداخل، وأن الله لا يحمينا من الناس إلا إذا حَمَيْنا الناس منا.
فاطلب السلام من الله لا لك وحدك… بل لك ولهم معًا.
لأن من يتطهر من شر نفسه، لن يكون عبئًا على قلوب الآخرين، بل أمانًا لهم
و في النهاية
إن أخطر ما نواجهه في هذا الزمن ليس شراسة الناس، بل عمى الإنسان عن نفسه. فالذي يرى نفسه دائمًا الطرف النقي، البريء، المظلوم، سرعان ما يتحول دون أن يشعر إلى مصدر أذى؛ لأن من لا يعترف بخطئه لن يصلحه، ومن لا يخاف من شرّه لن يكفّ يده أو لسانه عند الحدّ الذي يجب أن يقف عنده
وليس معنى هذا أن نجلد ذواتنا أو نُقصيها، بل أن نرى أنفسنا بحجمها الصحيح: نملك القدرة على الخير كما نملك القدرة على الشر، نُخطئ كما نُصاب بخطأ غيرنا، وعلينا أن نحتاط للجانبين معًا.
فالاعتراف بالاحتمال هو أول درجات التهذيب، والإنسان الذي يضع احتمال أن يؤذي غيره، هو نفسه الذي يراقب نبرة صوته، يراجع كلمته قبل أن تُقال، ويُبطئ يده قبل أن تجرح
ثم إن الخوف من خروج الشر منا ليس خوفًا بلا مقابل، بل هو بوابة إلى فضلٍ كبير:
من كفّ شرّه عن الناس كفّ الله شرور الناس عنه، ومن رحمهم رُحم، ومن كان للخلق أمانًا، جعله الله في معية الأمان.
وهذا قانون قدري وأخلاقي ونفسي في الوقت ذاته:
القلوب ترتاح لمن لا يؤذيها، وتقترب ممن لا يجرحها، وتأتمن من لا يستهين بأثر كلماته وأفعاله عليها.
فليكن كل خروج لنا إلى الحياة مشروطًا بهذا الوعي:
لا يكفينا أن ندعو الله أن يحمينا من ظلم غيرنا… بل نحتاج أن نطلب منه أن لا نكون نحن الظالمين.
لا يكفينا أن نُحصّن أنفسنا من أذى العالم… بل نحتاج أن نصبح جزءًا من دوائر الرحمة فيه، لا دوائر الأذى.
إن من أراد أن يعيش بسلام — فليكن سلامًا هو أولًا.
ومن أراد أن يحيا بكرامة بين الناس — فليكفّ عن جرح كرامتهم.
ومن أراد أن يلقى الله بقلب سليم — فليتعلّم كيف يخرج إلى الدنيا دون أن يثقل أرواح الآخرين بلسانه أو يده أو طبعه
فالأمان ليس هبةً ننتظرها من الخارج بل صناعة نصنعها بأخلاقنا
ومن صلُح في نظر الله، لا يضره أن يساء فهمه في نظر الناس







اضف تعليقك على المقال