الكاتب : مصطفى المخلافي
يبدو أن إعلان حزب المؤتمر الشعبي العام تجميد نشاطه التنظيمي، لم يكن مجرد خطوة إجرائية في سياق عبثي، بل هو فصل جديد في تاريخ حزب لطالما كان عنواناً للدولة اليمنية الحديثة وركيزة لوحدتها وجمهوريتها، ولذا ثمة أمور تتجاوز سطح القرار إلى عمقه، فالمسألة لا تتعلق بتوقف إداري، إنما بقراءة دقيقة لمعادلة القوة التي تحكم المشهد، ولحظة استثنائية تفرض على الكيانات السياسية أن تعيد تموضعها حفاظاً على ما تبقى من روحها.
لكن في المقابل، لا يمكن النظر إلى التجميد باعتباره انكفاء أو هزيمة، فلسفياً يُعد هذا القرار تعبير عن وعي عميق بمعنى البقاء وسط الغلبة، فالحزب الذي خبر دهاليز السياسة لعقود، يدرك أن التقدم إلى الأمام ليس دائماً فعلاً شجاعاً، وأن التراجع التكتيكي أحياناً هو أعلى درجات الصمود وهذا ما اختاره الحزب وهو الخيار الانفع ربما في الوقت الراهن.
أتذكر حين كنت في العاصمة صنعاء قبل سنوات، كان الناس يتحدثون في المقاهي والبيوت والأسواق عن مصير حزب المؤتمر الشعبي العام في حال رحل الشهيد الزعيم علي عبدالله صالح، كان السؤال يتردد بخوف مكتوم، هل سيبقى الحزب قائماً؟ وهل سيستطيع الصمود بلا زعيمه المؤسس؟ وكأنهم كانوا يتوجسون من هذه اللحظة تحديداً، لحظة أن يُصبح الحزب وجهاً لوجه أمام سلطة الغلبة المسلحة، بلا حماية ولا مظلة، واليوم بعد أن دارت عجلة الزمن، يبدو أن تلك المخاوف قد أصبحت واقعاً سياسياً ملموساً، لكنه واقع واجهه الحزب بالعقل وبالتكتيك، ولم ينجر إلى مواجهة فعلية كما خططت الميليشيا الحوثية.
فالمؤتمر الشعبي العام لم يكن يوماً تنظيماً عادياً، بقدر ما كان ذاكرة الدولة وذاكرة الجمهورية، الحزب الذي حمل مشروع الوحدة في أصعب مراحلها، وصاغ مفهوم الدولة الوطنية الحديثة، وخاض معارك السياسة والتنمية منذ تأسيس اليمن الجمهوري، وهو الحزب الذي تماهت معه الدولة، حتى صار أحد أركان استقرارها، ولهذا، فإن قرار التجميد لا يمكن فهمه بمعزل عن تاريخه ومكانته، إنه أقرب إلى إعادة تموضع مدروس، وليس انكفاء أو انكسار.
شعبياً ثمة سؤال يفرض نفسه، هل كان أمام حزب المؤتمر الشعبي العام خيار آخر؟ الواقع يقول لا، فمنذ انتفاضة الثاني من ديسمبر 2017، وجد المؤتمر الشعبي العام نفسه داخل معادلة معقدة في العاصمة صنعاء، معادلة يحكمها السلاح، وتتحكم فيها القوة، قوة تقوم على التعايش القسري تحت رقابة أمنية مشددة وضغوط مستمرة على القيادات.
ومنذُ تلك اللحظة أصبح المؤتمر الشعبي العام في بيئة معقدة، يعمل على محاربة الضغوط، وكسر القيود التي فرضت عليه، ليجد نفسه لاحقاً محروماً من أدواته الطبيعية، التنظيم، والاجتماع، وحرية القرار، ومع ذلك حافظ الحزب على تماسكه الداخلي بالحد الأدنى الممكن، مدركاً أن الصمود الرمزي أفضل من الانهيار الكامل، وأن البقاء في المشهد ولو بصوت خافت أفضل من الغياب التام، وهو الخيار الذي فوت الفرصة على ميليشيا الحوثي، فرصة الاجتثاث وجر الحزب إلى مواجهة مباشرة معه.
لكن السؤال: هل يمكن لحزب بحجم وتاريخ حزب المؤتمر الشعبي العام، أن يقبل أن يتحول إلى مجرد واجهة تُزين مشهد الملشنة؟ هنا جاء التجميد كجواب سياسي حاسم، وكفعل احتجاجي صامت، فحين يُسلب الحزب حقه في الاجتماع والكلمة والقرار، يصبح الصمت موقفاً، والتوقف عن الفعل الظاهري شكلاً من المقاومة، والتجميد هنا حركة داخلية من نوع آخر، حركة تحمي الذات من الاستهلاك، وتحفظ المبدأ من الابتذال.
ولذلك أختار حزب المؤتمر الشعبي العام أن يقول لا بلغة هادئة، وأن يرفض الذوبان داخل مشروع لا يؤمن بمبادئه ولا برؤيته الجمهورية، وهذا في جوهره تجسيد لمعنى الصمود في لحظة تُختبر فيه المبادئ كما تختبر المعادن في النار.
فلسفياً، التجميد هنا نوع من الحياة المؤجلة، أن تختار الوجود الهادئ حتى تنقشع الغلبة، وحين تستعيد الدولة معناها، يمكن للحزب أن يعود بحيويته الطبيعية، كما يعود القلب إلى الخفقان بعد صدمة مؤقتة، فالحزب الذي خبر الدولة ومؤسساتها يدرك أن لحظات التوقف قد تكون أحياناً شرطاً للبقاء، وأن الانحناء للعاصفة يعني الحفاظ على الجذور إلى أن تهدأ الرياح.
لا أخفيكم منذ إعلان خبر التجميد انتابني شعور يصعب تفسيره، حالة من الصمت المربك، كأن الزمن توقف لحظة ليفكر معي، هل أتى القرار متأخراً؟ أم أن لتوقيت كان مناسباً؟ شعور يصعب الفكاك من لحظاته، لأنه يمس شيئاً في الذاكرة، في صورة الدولة كما عرفناها ذات يوم.
ولذلك فإن قرار التجميد في جوهره هو فعل كشف، إذ سيعري الميليشيا الحوثية من الغطاء السياسي الذي طالما احتمت به، قرار أشبه بنزع ستار ظل مُجبراً على ستر عورات كثيرة، وربما من المفارقات، أن صمت المؤتمر الشعبي العام أحدث ضجيجاً أكبر مما أحدثه حضوره، ليتحول بعد ذلك إلى مرآة تفضح كل من ظن أن السيطرة تُغني عن الشرعية.







اضف تعليقك على المقال