الكاتب : أشرف محمدين
في اللحظة التي يفقد فيها الإنسان أعصابه، لا يخسر الموقف فقط، بل يخسر صورته أمام نفسه أولًا. فالغضب ليس مجرد انفعال عابر، بل هو ـ في جوهره ـ إعلان عاجز عن التحكم، واستقالة مؤقتة للعقل من مقعد القيادة. لذلك قيل قديمًا: الغضب بداية الجنون، ونهايته ندم. تنتهي كل ثورة غضب إلى جملة واحدة تخرج دائمًا متأخرة: “يا ليتني لم أقل…”.
الصبر، على عكس ذلك، ليس برودًا، ولا ضعفًا، ولا تنازلًا عن الحق، بل هو أعلى درجات الذكاء الانفعالي. الصبر ليس أن تسكت لأنك غير قادر، بل أن تسكت لأنك قادر ولكنك أعمق من أن تحرق الموقف في لحظة انفعال . الحكيم لا ينتصر اليوم ليخسر غدًا، ولا يربح الجدال ليخسر العلاقة، ولا يرفع صوته ليُسقط قيمته.
الغضب ـ في العلاقات خصوصًا ـ يدمّر ما تبنيه السنوات. كلمة واحدة في ذروة الانفعال قد تهدم الثقة، وقد تجرح كرامة، وقد تُدخل الشك من نافذة لا تُغلق بعدها. وكل من خاض التجربة يعرف أن جبر الخاطر أسهل من جبر الكلمة. فالجملة التي قيلت بلا عقل، لا تكفّر عنها ألف جملة ندمت عليها لاحقًا.
الصبر، على الجانب الآخر، ليس انسحابًا من الموقف، بل هو اختيار واعٍ لتأجيل الرد حتى تستعيد النفس مرآتها. لا أحد يربح وهو غاضب. المنتصر الحقيقي من ينتظر حتى يهدأ، ثم يتكلم بميزان لا ببركان. فالكلمة في لحظة الغضب تشبه السهم: بعدما يغادر، لا ينفع الاعتذار أنه أُطلق بلا قصد.
إن الغضب يُشعر صاحبه بالقوة لحظيًا، لكنه يجعله أضعف على المدى الطويل؛ بينما يمنح الصبر صاحبه مظهر الهدوء، لكنه يرفع وزنه الداخلي في ميزان الاحترام والهيبة. ما من عقل راجح احترقه الغضب، ولا من غضوب خرج من معركة الكلمات مرفوع الرأس. الهيبة لا تُصنع بالصوت المرتفع، بل بقدرة صاحبه على ألّا يعلو إلا حين يريد، لا حين يُستدرج.
لا يُقاس الإنسان بطريقة رده حين يُكرَّم، بل بطريقة تماسُكه حين يُستفَز. هنا فقط يظهر الفرق بين من يملك نفسه، ومن تملكه نفسه. بين من يتكلم بعقله، ومن ينطق بجرحه. لذلك كانت الحكمة القديمة صادقة:
الغضب حماقة… والعقل كله في الصبر
و في النهاية
ليس الصبر فضيلة أخلاقية تُقال في وعظٍ أو تُكتب على جدران المدارس، بل هو مهارة بقاء إنساني. الزوج الذي يصبر لحظة، يحمي بيته من زلزال كان يمكن أن يمحو سنوات من المودة في دقيقة واحدة. الأم التي تصبر على كلمة انفلات من ابنها، تحفظ العلاقة من انكسار نفسي قد يبقى أثره حتى الكِبَر. المدير الذي يصبر على انفعال موظف، يربّي رجلًا لا يهدم مسارًا. الصبر هنا ليس «قمع مشاعر»؛ بل إعادة توجيهها قبل أن تتحول إلى أدوات تخريب.
الغضب — حين يدخل الزواج — لا يكتفي بتسميم اللحظة، بل يزرع شكًا في عمق الذاكرة:
هل هذا ما يراه بي؟ هل هذا ما كان يختبئ داخله؟
كلمة غضب واحدة قد تجعل الطرف الآخر يعيش حياته كلها بعين متوجسة حتى وهو يبتسم. أما الصبر، فيصنع العكس: يعطي الطرف الآخر شعورًا أن العلاقة يقودها شخص راشد، لا طفل يحمل قنبلة في لسانه.
وجمال الصبر أنه يغيّر شكل النهاية لا شكل الحقيقة.
الحقيقة قد تكون صادمة، مؤلمة، ظالمة أحيانًا؛ لكن طريقة النطق بها تحدّد:
هل تُصلح أم تُهدم؟
هل تُبقي الجسور، أم تُفجّرها؟
المؤلم أن أغلب معارك الزواج — بل أغلب معارك الحياة — لا تنتهي بهزيمة أحد الطرفين، بل بخسارة الاثنين معًا. والغضب هو المسيطر الوحيد على المعارك التي لا يخرج منها أحد رابحًا.
إن الصبر ليس ضعفًا عن الرد، بل حبًا للبقاء. ليس سكوتًا عن الإهانة، بل رفضًا لأن تتحوّل العلاقة إلى ساحة دم. الصبر ليس هروبًا من المواجهة، بل تأجيلها حتى يكون ميزان العدالة أكثر استقامة وهدوءًا. لا يوجد عقل يشتغل تحت الدخان، ولا يوجد قرار سليم يُولد من فم مشتعِل. لذلك كان الصبر أخفّ كلفةً من اعتذار متأخر، وأجمل من ندم بلا رجعة.
ويبقى الدرس الأخير:
الذي يكسب لحظة غضبه يخسر سنوات من نفسه. والذي ينجو من اللحظة بصبر، يربح احترامًا يتراكم مثل الذهب. فالعلاقات الكبرى — زوجية كانت أو إنسانية — لا تُحفظ بالحب وحده، بل بحجابٍ من الحكمة يحمي هذا الحب من الانتحار اللفظي.
الغضب يشبه النار: تضيء لحظة لكنها تحرق البيت.
والصبر يشبه الماء: قد يتأخر، لكنه وحده الذي يُبقي العمر قابلًا للعيش







اضف تعليقك على المقال